
من “غويران” إلى “كوجي”… استراتيجية هدم الأسوار تطل من جديد
د. حمادة شعبان
مشرف وحدة رصد اللغة التركية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف
أعلنت وكالة أعماق ـالجناح الإعلامي لتنظيم داعش ــ الأربعاء 6 يوليو الجاري أن تنظيم داعش اقتحم سجن “كوجي” القريب من العاصمة النيجيرية “أبوجا” وحرر عشرات من عناصر التنظيم، ضمن عملية “هدم الأسوار” التي وصفتها الوكالة بالجريئة والتي أطلقتها دولتهم قبل سنوات كخطوة عملية من أجل تحرير عناصرها.
وتُعد هذه العملية هي الثانية من نوعها خلال عام 2022، حيث سبقها اقتحام التنظيم لسجن “غويران” في سوريا في يناير 2022 بعد أكثر من عام من اقتحام التنظيم لسجن “ننجرهار” في “أفغانستان”. وفي هذا التقرير سوف نتعرف على استراتيجية “هدم الأسوار”، ومدى اعتماد تنظيم داعش عليها لتقوية صفوفه، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: خلفية تاريخية لاقتحام السجون عند داعش
يعد اقتحام السجون استراتيجية عقائدية لدى تنظيم داعش، اعتمد عليها منذ أن كان اسمه “جماعة التوحيد والجهاد” بقيادة “أبو مصعب الزرقاوي”. وقد شهد عام 2004 أول هجوم لهذه الجماعة على سجن “أبو غريب”، وقاد تلك العملية “أبو أنس الشامي” مساعد “الزرقاوي” والمفتي الشرعي للجماعة، واستطاع من خلالها تحرير بعض العناصر التابعة لهم. وفي عام 2011 هاجم التنظيم الذي كان حينها يسمى “دولة العراق الإسلامية” سجن “مدينة البصرة” في العراق، واستطاع تحرير أكثر من 200 من عناصره. لكن هذه العمليات لم تلقى زخمًا إعلاميًا خارج العراق، ربما بسبب عدم انتشار استخدام الإنترنت ومواقع التواصل مقارنة بوقتنا الحالي.
ثانيًا: إعلان استراتيجية “هدم الأسوار”
تعرض تنظيم “دولة العراق الإسلامية” في الفترة بين عامَي 2009 و2012، لهزيمة تكتيكية ثقيلة أضعفته وجعلته ينكفأ على نفسه فترة طويلة، حيث قُتل عدد من قادته التاريخيين أمثال “أبو عمر البغدادي” و”أبو حمزة المهاجر”، وتولى بعدهما “أبو بكر البغدادي” قيادة هذا التنظيم الذي أصبح فيما بعد “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، ثم “الدولة الإسلامية”، والمعروف كليهما بـ “داعش”. وفي يوليو 2012 وجه التنظيم خطابًا مهمًا لأفراده عن طريق “أبو محمد العدناني” ــالمقتول في 2016ـــ قال لهم فيه إن “البغدادي” يأمرهم باقتحام السجون العراقية، وتحرير عناصرهم المعتقلة فيها، معلنًا بذلك استراتيجية “هدم الأسوار”، وهو الأمر الذي لم تعيره السلطات العراقية حينها اهتمامًا نظرًا لضعف التنظيم في تلك الفترة، أو ما كانت تعتقده السلطات ضعفًا، بسبب انقطاع التنظيم عن تنفيذ عمليات إرهابية في البلاد لفترة طويلة. لكن خابت توقعاتهم، فبعد عام واحد من خطاب “البغدادي” بدأت استراتيجية “هدم الأسوار” تدخل حيز التنفيذ، حيث اقتحمت عناصر التنظيم سجني “أبو غريب” و”التاجي”، وحرروا حوالي 600 فرد من عناصر تنظيم القاعدة، كان لهم الأثر الأكبر والأهم في قوة “داعش” بعد ذلك.
ومنذ ذلك الحين استمرت هذه الاستراتيجية ولم تتغير، وأصبحت السجون التي يوجد بها عناصر داعشية هدفًا للتنظيم ليس في العراق وحدها بل وفي أي مكان آخر. ففي مايو 2019 حدث تمرد من عناصر داعش داخل سجن في مدينة “دوشانبي” عاصمة “طاجيكستان”، حيث حاولت عناصر داعش الهروب، وقتلوا 3 من حرس السجن، وحرقوا المنشآت الطبية. وفي خطابه الأخير الذي نُشر عام 2019 بعنوان “وقل اعملوا” حث “أبو بكر البغدادي” عناصر تنظيمه على الاستمرار في مهاجمة السجون، ولكنه في هذا الخطاب ــالذي كان عبارة عن تسجيل صوتي ــ غير “البغدادي” اسم “هدم الأسوار” مستخدمًا بدلًا منه مصطلح “فك العاني”، حيث قال: “السجون، السجون يا جنود الخلافة، إخوانكم وأخواتكم، جدّوا في استخراجهم، ودكّ الأسوار المكبلة لهم، فكّوا العاني، فهذا أمر ووصية نبيكم ﷺ، فلا تقصروا في فدائهم، إن عزّ عليكم كسر قيدهم بالقوة، وأقعدوا لجزاريهم من المحققين وقضاة التحقيق، كيف يطيب للمسلمين العيش ونساؤهم يرزحن في مخيمات الشتات، وسجون الذلّ تحت وطأة الصليبيين والرافضة….؟”.
وبعد هذا الخطاب نشط التنظيم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصًا “تيليجرام”، وكثرت المنشورات التي يؤكد فيها أفراد التنظيم على رغبتهم القوية في اقتحام السجون، وهو الأمر الذي أكده “معهد دراسات الحرب” ـــمؤسسة بحثية غير حكومية، مقرها واشنطن ــــ في تحقيق له عام 2019، أكد من خلاله استعداد تنظيم داعش لـ”تحرير مقاتليه وأتباعه” من السجون ومخيمات النزوح في جميع أنحاء سوريا والعراق.
فالتحريض كما نرى لم يكن على اقتحام السجون فحسب، بل كان تحريضًا على القضاة والمسئوولين عن هذه السجون أيضًا. وفي العدد 246 من صحيفة “النبأ” الأسبوعية الصادرة باللغة العربية عن ديوان الإعلام المركزي في “داعش” أكد التنظيم على أن قياداته ما زالت تضع قضية اقتحام السجون على رأس أولوياتها، وما زالوا يوصون أفراد التنظيم بتقديم هذه القضية على ما عداها.
ثالثًا: هدم الأسوار بعد البغدادي:
وفي أكتوبر 2019 أعلن الرئيس الأمريكي “ترامب” مقتل “أبو بكر البغدادي” في عملية إنزال شنتها الولايات المتحدة على المنزل الذي كان يختبأ فيه “البغدادي” في الريف الشمالي لمحافظة “إدلب”. ولم تتوقف عملية “هدم الأسوار” في عهد “أبو إبراهيم القرشي” الذي تولى قيادة “داعش” بعد “البغدادي”، بل أخذت زخمًا إعلاميًا مكثفًا على منصات التنظيم الإعلامية. وفي “أغسطس” 2020 هاجمت عناصر من ولاية خراسان الداعشية سجن “جلال أباد” في ولاية “ننجرهار” الأفغانية، وذلك بخطة محكمة نفذها 11 داعشيًا، استطاعوا اقتحام السجن وقطع الدعم عنه، عن طريق إشغال القاعدة العسكرية الأمريكية الموجودة في “ننجرهار” بإطلاق بعض القذائف عليها. وفي يناير من العام الجاري شن تنظيم داعش هجومًا قويًا على سجن الصناعة في مدينة “الحسكة” شمال شرق سوريا، بعد أن فُجرت بوابة هذا السجن بسيارة مفخخة قادها أحد عناصر التنظيم. وهذا الهجوم كان متوقعًا بقوة نظرًا لتهديدات داعش الإعلامية باقتحامه، وهو الأمر الذي أثار الجدل حينها. ونتج عن هذا الهجوم فرار مئات من عناصر التنظيم.
وبعد هجوم الحسكة بحوالي شهر، وتحديد في 3 فبراير 2022 أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مقتل “أبو إبراهيم القرشي” في عملية إنزال أمريكية على المنزل الذي يقطنه “القرشي” في بلدة “أطمه” شمالي “إدلب”. وتولى بعده “أبو الحسن الهاشمي”، وفي أول خطاب للتنظيم الذي أعلن فيه تولي “الهاشمي” تعهد “أبو عمر المهاجر” المتحدث الجديد باسم التنظيم مواصلة السير في استراتيجية “هدم الأسوار”، وحث عناصر التنظيم على مهاجمة السجون وتحرير المعتقلين: “أمَّا أَنتُم يا إخوانَنَا وأخواتِنَا الأسرى في السجونِ، في كلِّ بقعة من بقاع الأرضِ، فإن إخراجكم والسعيَ الدائم في فَكَاك أسرِكُم وافتِدائِكم بالنفس والمالِ، لهو فرض علينا ودين في أعناقِنَا، وهو العهد الذي أَلزَمنَا أنفسَنَا بهِ مادام فينا عرقٌ ينبض وعين تطرف، وإنَّ إخراجكم أعزة من أولى الأولوياتِ ومن أسمى الغاياتِ، ولكنْ نريدُ مِنكُم عَهدًا بالصبرِ والدعاءَ لنا بالتمكينِ والنصرِ، وأن نَستعينَ جميعُنا باللهِ وحدَهُ فإنَّهُ لا حولَ لنَا ولا قوةَ إلا بهَ سبحانَهُ، فلا تَظنوا أن طولَ الأمد وكثرة الخطوب والكَبَد، ينسينا إياكم، فوالله إنكم لفي سويدَاء القلبِ وسواد العيونِ”.
رابعًا: لماذا يقتحم تنظيم داعش السجون؟
بعد هذا السرد يمكننا القول إن اقتحام السجون استراتيجية بل وعقيدة راسخة لدى تنظيم داعش منذ أن كان اسمه “جماعة التوحيد والجهاد”، وهو أحد الاستراتيجيات المشتركة التي مارسها كافة زعماء داعش بلا استثناء. فما السبب وراء هذه الاقتحامات؟
يرى كاتب هذه السطور أن اقتحامات داعش للسجون لها العديد من الأبعاد، أولها البعد الإعلامي والمرتبط بقوة باالبعد الاستقطابي، حيث يسعى التنظيم إلى لفت أنظار كافة أفراد التنظيمات الإرهابية الأخرى إلى قوته، ووقوفه خلف أفراده، وعدم الاكتفاء بالدعاء لهم أوأمرهم بالثبات والصبر، بل يسعى لتحريرهم ويرسم الخطط لذلك. وهو أمر لا نجده عند تنظيمات أخرى في الوقت الحالي، فهيئة تحرير الشام اعتقلت العديد من قادة وأفراد تنظيم “حراس الدين” ممثل “القاعدة” في سوريا، ولم تسع “القاعدة” لتحريرهم، واكتفت بالحديث عنهم على مواقع التواصل. وهذا الأمر يستخدمه التنظيم من أجل استقطاب قادة وأفراد ومقاتلين أجانب من التنظيمات الأخرى. كما يدخل ضمن البعد الإعلامي أيضًا ما يمكن أن نطلق عليه “استعراض العضلات”، حيث يحرص التنظيم بعد كل عملية اقتحام إلى نشر خطة هذا الاقتحام، وتصوير فيديو لها، وحث أفراده على ترويجه، وهو الأمر الذي يحمل بُعدًا نفسيًا سنتحدث عنه بعد قليل.
البعد الثاني لسعي داعش لتحرير عناصره هو البعد العسكري، حيث يسعى التنظيم للاستفادة من عناصره المسجونة في تقوية صفوفه وإعادة بنائه، لا سيما وأن المسجونين عناصر مدربة عسكريًا، ومهيئة أيديولوجيًا، وستوفر على التنظيم جهودًا كبيرة، خصوصًا بعد انتهاء سيطرته المكانية في أماكن التمركز الرئيسة، وضعف قدرته على استقطاب وتدريب عناصر جديدة. ويدخل ضمن البعد العسكري أيضًا إظهار قدرات التنظيم التكتيكية والخططية، وإبراز قدرته على القيام بعملية مركبة تُعيد إلى الأذهان عملياته في سوريا والعراق إبان قوته في عامي 2014، 2015.
البعد الثالث لاستراتيجية “هدم الأسوار” هو البعد النفسي، حيث يسعى التنظيم من خلال هذه العملية إلى رفع الروح المعنوية لدى مقاتليه، وإشعارهم أن التنظيم موجود، وقادر على القيام بعمليات قوية، ولديه المبادرة الزمانية والمكانية، وفي الوقت ذاته يسعى إلى خفض الروح المعنوية لدى القوات الحكومية والمحلية المسئولة عن حماية السجون، وزعزعة ثقة المجتمع الدولي فيها.
الخلاصة:
اقتحام السجون استراتيجية ثابتة لدى تنظيم داعش، تتطلب تكاتف من المجتمع الدولي لحلها، وينبغي أن تكون أول خطوة هي استعادة كل دولة للمقاتلين الأجانب الموجودين فيها، ومحاكمتهم داخل بلدانهم الأصلية، والاستفادة من دروس الماضي.