هل ستسعى واشنطن لمحاصرة الدور التركى فى ليبيا ؟
د. إيمان زهران
متخصصة فى العلاقات الدولية والأمن الإقليمي – القاهرة
ثمة حديث حول ضرورة إعادة النظر فى “السياسات الضبابية /المُرتبكة” لواشنطن فى ليبيا، لاسيما بعد اغتيال السفير الأمريكي، كريستوفر ستيفنز، في القنصلية الأمريكية في بنغازي. وما لحق بذلك من التصريحات الأمريكية في أبريل 2017، أنه: “لا يرى دورًا للولايات المتحدة في ليبيا”
وتتفق تلك الرؤى مع التغير فى الخطوات الأمريكية والتى بدأت أن تتخذ مساراً أكثر جدية، وذلك عبر محاصرة أنقرة وإعادتها إلى الدائرة الأطلسية، وتقويض التحركات التركية المدفوعة بالبحث عن الشراكات مع اللاعبين الإقليميين والدولين الآخرين مع التركيز بشكل خاص على إقامة علاقات أوثق مع روسيا، وهو ما ترى فيه واشنطن تهديدا لمكانتها الدولية ومصالحها بالإقليم. ليدفعنا بذلك نحو التساؤل حول دوافع ومؤشرات ذلك التغير الأمريكي، ورسائلة المتباينة لمحاصرة الدور التركى فى ظل مُجمل التحديات المتشابكة للعديد من القضايا على أجندة الرئيس المنتخب “جو بايدن” والتى فى مقدمتها مستقبل ملفي الحرب التجارية مع الصين والعقوبات الإيرانية خارجيا، وبعض القضايا الداخلية كتداعيات الاقتصادية والاجتماعية لفيروس “كوفيد 19″، وإستكمال متطلبات عملية إنتقال السلطة فى يناير
2020
دوافع واشنطن
تنامى التنسيقات الروسية – التركية
يسعى كلا الطرفين لإعادة إنتاج التوافق النسبي في الملف السوري، إذ إنعكس ذلك على شراء تركيا لمنظومة الدفاع إس-400، فضلا عن التعاقد على مقاتلات سوخوي سو-35 الروسية. حيث تستهدف موسكو وأنقرة من تنسيقاتهما الثنائية على إضفاء الصفة الرسمية وشرعنة مراكزهما الميدانية فى ليبيا، كما أن تركيا تستغل الدعم الروسى ضد المعارضة الأوروبية لوجودها في طرابلس وتنسيقاتها البحرية – غير القانونية – مع ليبيا. وبالمقابل، تدعم روسيا مكانتها في النصف الشرقي من البلاد، وتعزز مصالحها الاقتصادية المحلية، وتوسع قاعدتها العسكرية لإعادة تموضعها في المنطقة، وهي الخطوة التى تنبهت إليها واشنطن وإنعكس ذلك على التغير فى تحركاتها نحو محاصرة مثل تلك التفاهمات الثنائية.
تراخى وضعف الحضور الأوروبى
إحدى أهم دوافع إعادة إنتاج التحركات الأمريكية، ما يتعلق بموازنه حجم الإختلالات بالتحركات الأوروبية – التى تتسم بـ “سلوك رد الفعل”- جراء التخوفات المتعلقة بمستقبل الصراع الليبي، وما سينتهى إليه الأطراف المنخرطة والراعية بالمسألة الليبية، فعلى سبيل المثال: إيطاليا كانت أكثر دعما لحكومة الوفاق بحكم مناطق نفوذها التقليدي في غرب ليبيا، وبالمقابل تُدعم فرنسا الجيش الوطني الليبي. كما أنه بالرغم مما أثاره الإنخراط التركي خلال الفترة الأخيرة من إثارة حفيظة الأوروبيين، فإن الاتحاد الأوروبي لم يبذل جهدًا كافيًا لإنجاز مخرجات برلين، ولا دعم منع تدفق السلاح إلى ليبيا، كما أن عملية “إيريني” البحرية التي تم إطلاقها في مطلع مايو الماضي لم تحقق كامل أهدافها في ردع أنقرة عن الاستمرار في دورها المشبوه في الصراع الليبي وتصديرها للازمات بالإقليم
تعزيز مبدأ كارتر
نظرا لأن النفط أصبح سلاحا سياسيا، فقد دفعت واشنطن بما يُعرف بـ “مبدأ كارتر”، والذى يقوم على منح المؤسسة العسكرية الأمريكية دورا مهمًا للتصدي لأي خطر – أيا كان طبيعته – يعوق البحث عن النفط وتأمين مصادره والوصول إليه والحفاظ على ثبات أسعاره
ولعل تلك النقطة هى المدخل الرئيسى لإنشاء ما يعرف بـ “وحدة AFRICOM” للعمل مع الشركاء المحليين والدوليين على بناء قدراتهم الدفاعية وتعزيز مقدرتهم على الاستجابة للأزمات، وردع التهديدات العابرة للحدود من أجل حماية مصالحها الوطنية، وتعزيز أمن القارة الإفريقية، وضمان تقدم الولايات المتحدة، وتأمين مصادر النفط الأفريقي، وفى مقدمته النفط الليبي – صاحب الاحتياطي النفطي “المؤكد” الأكبر في إفريقيا، وما يقرب من 2.9% من الاحتياطي النفطي العالمي المؤكد، إلى جانب أن ليبيا صاحبة رابع أكبر احتياطي من الغاز في إفريقيا، وتمتلك 0.8% من احتياطي الغاز العالمي. وهو ما يعزز سياسات التغير بالموقف الأمريكي لموازنة تداعيات العقوبات المفروضة على إيران والتي من المرجح أن تحدث أزمة في سوق النفط العالمية، ليكون “النفط الليبي”، بجانب النفط القادم من بعض الدول الإفريقية الأخرى بديلا لتعويض النقص المحتمل، لتصبح تحركات واشنطن حول من تؤول له كل تلك الثروات النفطية، أو بمعنى أدق هل يتخلى ترامب عن هذا الكم الهائل من الطاقة “شبه المجانية” لقوى صاعدة كتركيا أو لقوى منافسة كروسيا فى إطار ما يُعرف بـ “الإمبريالية النفطية الجديدة”؟!
رسائل متباينة
عدد من الرسائل المباشرة وغير المباشرة دفعت بها واشنطن للشركاء والمنافسين، وهو ما قد ينبئ مستقبلا بمنهاجية التعامل مع الدور التركى فى ليبيا، منها
رسائل بياناتية
إنعكس ذلك على تفنيدات التقرير الصادر عن المفتش العام بوزارة الدفاع الأمريكية “هيئة الرقابة الداخلية فى البنتاجون” إستنادا إلى بيانات القيادة الأميركية في أفريقيا “أفريكوم” حول الدور التركى فى ليبيا خلال الفترة من إبريل وحتى نهاية يونيو الماضى، إذ خلص التقرير إلى أن أنقرة أرسلت ما بين 3500 و 3800 مقاتل سوري “مدفوعة الأجر” إلى ليبيا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجارى، فضلا عن توضيح دور أنقرة فى تجنيس آلالاف المرتزقة وإنعكاس ذلك على مسار عمليات الانتشار التركية والتي ساعدت بدورها في تغيير مسارات الحرب الليبية. فضلا عن توالى بيانات البيت الأبيض وزارة الخارجية الأمريكية حول التأكيد على: “جهود مكافحة الإرهاب وتحقيق السلام والاستقرار فى ليبيا”، بالإضافة إلى دفع عدد من أعضاء مجلس النواب مشروع قرار “رقم 4644” وسُمى بـ “قانون استقرار ليبيا”. وكذلك تصريحات “ستيفاني واليامز”- رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالإنابة- حول النشاطات الإجرامية والغير قانونية لتركيا وخرقها لمخرجات برلين ومبادرات السلام فى ليبيا
رسائل ميدانية
تجلت فى تصريحات القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا عن إمكانية نشر قواتها في تونس، على خلفية الأنشطة العسكرية الروسية في ليبيا. إذ يمكن قراءة مثل تلك التصريحات على كونها رسائل أمريكية حول إعادة التموضع العسكرى فى شمال أفريقيا بدءاً من الإتصالات العسكرية مع تونس، وإستنادا للخبرات السابقة حينما إشتركت القوات الأمريكية لضرب مواقع تنظيم الدولة فى سرت فى 2016، وبالرغم من ان مثل تلك الرسائل توحى بدراسة إمكانية التدخل العسكري، إلا انها قد تبدو مستبعدة – بالوقت الحالى – خاصة فى ظل التشابك الأمريكي مع العديد من ملفات الإقليم، فضلا عن الترتيبات الداخلية لواشنطن بملفى “كوفيد-19” والإنتخابات الرئاسية المقبلة
رسائل دبلوماسية
ظهرت بشكل مباشر فى بيانات الخارجية الأمريكية والتى تقترب من ثوابت الموقف العربى، فعلى سبيل المثال: ثمن المكتب الصحفي لـ “مجلس الأمن القومي” الأمريكي “مبادرة السلام” المصرية كجهد يقود إلى: “وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، والعودة إلى المفاوضات السياسية بقيادة الأمم المتحدة”، وهى رسائل مباشرة من شأنها التشبيك مع قادة الاقليم وفى مقدمتهم القاهرة والأطراف المحلية فى ليبيا، لمحاصرة التمدد التركى فى ليبيا.
الجدير بالذكر، أن مثل تلك الرسائل قد إنعكست بدورها على سياقات المبادرة التي طرحتها الولايات المتحدة – بترتيبات مصرية – لحلحلة الملف الليبي أثناء اللقاء الذي عقده السفير الأمريكي في القاهرة، جوناثان كوهين، مع رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، والتي تتضمن ثلاثة محاور، هي: “الاول إنشاء منطقة منزوعة السلاح تشمل خط سرت الجفرة ومنطقة الهلال النفطي، بما يمكن المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها ويسمح بإعادة تدفق النفط الليبي إلى الأسواق العالمية، بينما الثانى يتمثل فى إعادة توزيع الثروة أي ما يتعلق بإيرادات النفط بشكل عادل لتشمل الأقاليم الثلاثة للبلاد، وثالثا سحب المرتزقة والميليشيات وتشديد حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على الأطراف الليبية، ثم التوصل إلى صيغة نهائية لوقف إطلاق النار، بموجب محادثات اللجنة العسكرية (5+5) التي ترعاها الأمم المتحدة”.
رسائل تنموية
تُرجمت بالتحرك نحو إعادة تموضع واشنطن بالإقليم من خلال ما يُعرف بـ “إستراتيجية جديدة لإفريقيا”، إذ تمحورت الإستراتيجية الجديدة حول ثلاث نقاط أساسية تُشكل بدورها ملامح التوجه الأمريكي بصفة عامة في القارة الإفريقية، بما فيها ليبيا، أولها: زيادة معدلات التجارة البينية في المنطقة الإفريقية، ثانيها: الاستمرار في محاربة الإرهاب وقوى التطرف والراديكالية، بينما الثالث: فيتعلق بتحديد أولويات الدعم المالى الأمريكي فى القارة الأفريقية.
فى النهاية ..
إتسم الموقف الأمريكي مُسبقا بـ “الضبابية” تجاة الدور التركى فى الصراع الليبي، إذ أن أنقرة قد نجحت فى تذبذب الموقف الأمريكي من خلال أداتين: الأولى ما تتعلق بتوظيف الإرتباك الداخلى الأمريكي، والثانية بتوظيف ورقة الوجود الروسى بالمشهد الليبي، وهو ما تجلى بوضوح مع حياد واشنطن السابق عن الخرق التركى المستمر للقرارات الأممية المتعلقة بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، علاوةً على ما تقوم به أنقرة من نقل لآلاف المقاتلين الأجانب والمرتزقة من سوريا إلى ليبيا.
بالمقابل، هناك إحتمالات حول إحداث تحولا نوعيا من جانب واشنطن نحو محاصرة أنقرة فى ليبيا، وإعادة تموضعها فى الشمال الأفريقي بالتزامن مع تغير السياسات والمشاهدات الميدانية بالإقليم، وهو ماقد يدفع بالولايات المتحدة لإعادة النظر فى عدد من السياقات، أهمها:
الإنخراط بصورة أكثر ديناميكية بالعملية السياسية فى ليبيا
إذ يتعين على المسؤولين في واشنطن بإدارة الرئيس المنتخب “جو بايدن” العمل بشكل منظم على التنسيق مع مبادرات قادة الشمال الأفريقي وفى مقدمتهم القاهرة، بالإضافة لتشجيع تنوع الأصوات السياسية الليبية لإيجاد مساحات وطنية مشتركة، وإشراك الأطراف المحلية من قطاع السياسة والأعمال والمجتمع المدني فى مسارات الحوار السلمى.
رصد انتهاكات قرار حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة والتدخل العسكري الأجنبي في ليبيا
وذلك بتوظيف البيانات التى تدفع بها “القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا -أفريكوم”، وتفعيل وتعزيز آلية “فرض العقوبات” على مختلف الكيانات لخرقها القرارات الأممية، مثل “المقاولين العسكريين الخاصين، وتجار الأسلحة، وشركات الشحن”، هذا بالإضافة لدعم واشنطن تصويتها لصالح قرار مجلس الأمن رقم 2510 الخاص بوقف إطلاق النار، وتعزيز التنسيقات المشتركة مع الأمم المتحدة بالشكل الذى يفضى إلى “عودة التنسيقات المؤسساتية”
محاصرة التحركات التركية بالشمال الأفريقي
وذلك بالدفع بالتوسع فى تطبيقات قانون مكافحة أعداء أمريكا “كاتسا”، فى إطار تقويض أنشطة أنقرة التي تهدد حلف شمال الأطلسي وجهود مكافحة الإرهاب، وإستنادا لما إنتهى إليه مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأمريكيان – مُسبقا – من فرض عقوبات ضد تركيا، فعلى سبيل المثال : فرضت الولايات المتحدة فى النصف الأول من ديسمبرعقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية في الجمهورية التركية ، وفقا للقسم 231 من قانون مكافحة أعداء أمريكا . بالإضافة إلى إستمرار تجميد جميع مبيعات الأسلحة الرئيسة إلى تركيا والذى تم الإعلان عنه من قبل الكونجرس الأمريكي لمدة عامين وذلك لردع السلوك التركى بالإقليم.